وجدان العمياء

وجدان العمياء 
 الأعمى أعمى القلب لا أعمى البصيرة



أعوام تتلو أعوام ....
لازلت أذكر تلك الليلة جيداً ... الليلة التي كانت الفاصل بين الظلام والنور.
كم كان صعباً أن أعيش في ظلام دامس بعد النور الذي كنت أبصره ... كم أتحسر على الحزن الذي كنت أضع نفسي فيه عند مشكلة صغيرة ... أو شجار ما ... ليتني كنت أعلم بذلك لجعلت عيناي تبصر جميع ما هو جيد ... لكنت فتاة تنبض بالحياة والأمل .... ذلك الأمل رحل عني منذ فقدت حبيبتاي .

أدعى وجدان ... أبلغ من العمر 23 ربيعاً ...
فتاةٌ عاديه جداً بملامح شرقية بحته ... أعتكف المنزل في العادة وأسمع أصوات الظلام أكثر ... لا أحبذ الاجتماعات ولا أستطيع فعل شيء .. أو هكذا تم إقناعي.
منذ الحادث المروع الذي حصل لي فقدت أشياءً كثيرة معها ... عيناي و أبي ودراستي ومستقبلي ..
يالها من خيبات تتلو خيبات .

لازلت أقبع في زوايا الغرفة... متوسطة الحجم .... بسيطة جداً تتكون من سرير ودولاب صغير ومكتب صغير ...
جدرانها البيضاء التي طالما تذمرت منها لكم أتمنى أن أرى بياضها مجدداً...
كل يوم أستقيظ من النوم على أمل أن أكون في كابوس مروع .. أتحسس ما حولي لأتكد أن كل شيء بقي على ما هو
لعبي المتناثرة هل ظلت كما هيا ... صديقاتي هل مازالت ضحكاتهم تجول في مدرستنا أم أنهم كبروا بملامح وحياة مجهولة مثلي ...

تحسست الجدارن ومشيت لأقطع الظلام وحدي ... أعتدت على ذلك بت أعرف الطرقات أكثر .... بت أعرف الزوايا الصغيرة ... وأسمع الأصوات الصغيرة ... ولكني لم أعد أعرف هل نهاري نهار أم ليلي ليل
إنه صوتهم يا إلهي الكارثة قادمة: ههههههههههه وجدان العمياء ... ألا زلت تحدثين الظلام وحدك
أقتربت من الحائط لأنني أعلم مالذي سيحصل
تمتت بضجر: بئساً
لقد أسقطوني كعادتهم وهم يركضون ويضحكون
أولئك هم إخواتي الصغار الذي حقاً لا أعلم ما هو شكلهم
أخبرتني خالتي أن أمي كانت بحاجه إلا زوج آخر خصوصا بعد فقد والدي وفقدي أنا لعيني ودراستي ولكنني لم أعد أسمع صوت أمي فتلك التي اسمعها امرأة أخرى .... شيئا ما بداخلي يخبرني أن أمي حزينة جداً
سمعتها ذات مره تتحدث مع أخي الصغير بالرغم من أنها تضحك معه وتداعبه إلا أنني وجدت في صوتها ماهو مختلف
صديقاتي لم أعد أعلم عنهم شيء تركتهم في وسط مدرستي المتوسطة وتركت نفسي المبصرة معهم ...

دائما ما كنت أسمع من حولي: أذهبي وأحضري لوجدان ما تريد ... تعلمين أنها لا تستطيع لا تحرجيها ... أعانك الله يا أم خالد تمتلكي إبنة تحتاج لرعاية تامة .... إنها ضريرة إلخ....
كلمات كثيرة ومؤلمه بداخلي ... أعتدت القيام بكل ما يخصني وحدي لكني لازلت عائق ولا يعتمد علي
حرقت يدي ... جرحت إصبعي .... وأحدثت أضرار بنفسي إثر قيامي بتلك الأعمال لكني دائما ما أجد الشتائم والصراخ وبأنني لا أصلح لشئ سوى الجلوس وانتظار أجلي.
*
*
*

استيقظت في يوم يشبه سنواتي التسع لم أعد كالسابق أنتظر أن أستيقظ من كابوس طويل ... بت أؤمن بأن الكابوس أصبح حقيقة مرعبة لي وبأنني في كل يوم سأستيقظ لأرى الظلام أكثر فا أكثر
جدلت شعري الطويل الذي يصل أسفل ظهري لكم أتمنى حقا رؤيته ... شقتت طريقي إلى دورة المياه ككل يوم
غسلت وجهي وهذه المره لم أنتظر لحظات وأنا أضع يدي على وجهي كعادتي ظناً مني أنني إن أبعدت يدي عن وجهي سأبصر النور .
لم أبصر سوى الظلام كعادتي ولكن...
لا أعلم لما حصل هذا رغم أنني أعلم كل جزء من بيتنا الذي نادراً ما أخرج منه
مددت يدي وأنا أصارع وأبحث وسط الظلام عن ما يمكنه إنقاذي من هذا الظلام لكن....
فتحت عيناي بصعوبة ... حقاً كما كان مؤلماً هذا السقوط لكني عدت مرت أخرى لإغماضها..
إنه صوت أمي ودفئ حضن أمي تنهرني قائله: كم أنتي حمقاء ألم أخبركِ مسبقاُ أن لا تذهبي إلا أي مكان بمفردك
حاولت جاهدةً فتح عيناي لكني أشعر بألم شديد
سمعت صوته أيضاً زوج أمي قائلا: ألا يجب علينا أن نذهب بها إلا المشفى ربما تضررت من السقوط
تبعه صوت أخي الصغير: هل توفيت ؟
نهرته أمي قائلة: حسام لا تقل هكذا ستعيش أختك.
......
استيقظت على ضوء ساطع وألم في رأسي .... لحظات امتلأت بالصدمة يا للهول ضوء وأنا عمياء هل أنا في حلم
أغمضت عيني ثم أعدت فتحها بدأت تتضح لي معالم الأشياء شيئاً فشيئاً رددت: يبدو أنني حقاً في حلم
ضحكت بيني وبين نفسي دائما ما كنت أعتقد أني في حلم وسأستيقظ لأرى النور لكني هذه المره أشاهد النور ولا أصدق أنني أشاهده
لحظات رأيت فيها وجه أمي الخائف
رأيت قلقها تمنيت لو تنزع ذلك النقاب لأرى وجهها جيداً تغيرت كثيراً عيناها مختلفة وجسدها أكتسب قليلا من الوزن
كانت صامته وتنظر إلي فقط رددت داخلي بصدمه: أيعقل أني أبصر ... أيعقل أني أرى والدتي الآن .
لما لا أصدق .. لما لا أصرخ بفرح مثلما كنت أردد بداخلي ... أين ذهبت تلك الأماني التي كنت أريد تحقيقها .
أمي أنا أبصر الآن ، لم أعد وجدان العمياء مجدداً ، لم أعد الحمل الثقيل مجدداً ... أريد قولها حقاً .. أريد الصراخ بها ، أريد القفز عاليا .

*
*
*

عدت إلى المنزل ولم يعلم أحدٌ بأني بت أبصر ... نظرت إلى تلك الوجدان التي لم أعد أعرفها منذ تسع سنوات
تغيرتي كثيراً يا أنا لو تعلمي كم أن تغيركِ هذا أصبح يؤلمني
تحسست شعري بيدي أيعقل أن شعري الأسود الذي كنت أتوسل إلى أمي كي تدعه وشأنها ولا تقص منه شيئاً أصبح بهذا الطول والشكل ... وبالرغم من أنني كنت أحرص على قياس طوله يوميا إلا أنني ذهلت منه
تحسست وجهي ... أيعقل أن البثور نمت فيه بسرعة فا أصبح بهذا الشكل
أيعقل أنني أصبحت بهذا الطول فجأةً بعد أن كنت ألقب بالقزمة .... أيعقل أن وزني زاد بهذا الشكل بعد أن كنت أتبع أقصى الحميات الغذائية إذا زدت كيلو جراماً واحداً ...
يبدو أن نفسي خانتني وكبرت بالشكل الذي لا أريده كبرتي يا نفسي ولم أتبع لحظات نموك .... كبرتي بشكل مفزع
أذكر جيداً تلك المرة التي خرجت فيها مع صديقاتي نضحك بصوت عالي كعادتنا بانتظار سيارتنا أذكر كيف ودعتهم ذاهبة لسيارة أبي وأذكر كيف حصل الحادث المروع ..... أنا آسفة يا أمي ... آسفة يا أبي ... كل هذا بسببي لكني أدركت جيداً أن أسوء ماقد يتعرض له الانسان أن يفقد الطريق الذي يرى العالم به .
الآن سأصرخ عالياً ... سأرى العالم من حولي ... بت أبصر الآن ... بت أرى ألوان الحياة .. لا مزيد من الحزن .. لا مزيد من الأسود في حياتي .. اكتفيت بالتسع سنوات من السواد.
التفت لأرى أخي خالد ينظر إلي أقسم لكم بأنه يقول عني بأني جننت ... ركض صارخاً خارج غرفتي : أمي هنيئاً لكِ لقد جنت ابنتك وجدان .
ركضت خلفه لأرى أمي توبخه بشده: كم مرةً يجب علي أن أخبرك يجب أن تحترم أختك الكبيرة
بدأ خالد كعادته بالحلف لأمي بكل ما رأه: أقسم لكي يا أمي أنها جنت رأيتها تحدث نفسها أمام المرآه أنا متأكد يا أمي
تمتمت أمي بضجر وهيا تضع يدها على رأسها: كفاك هراءً يا خالد لما تنظر وجدان بالمرآه وهيا عمياء .
كنت أنظر لأمي بدهشة تغيرت كثيراُ نمت التجاعيد في وجهها ... لم تعد تترك جزءً من شعرها بل أصبحت تسرحه جميعه .
أخوتي مختلفون جداً ليسوا كما رسمتهم في مخيلتي ... وزوج أمي ملامحه ليست صارمه كما توقعت بل تشع منه الطيبة
ركضت لأمي وارتميت في حضنها وأنا أصرخ: أنا أبصر يا أمي أبصر .... لم أعد وجدان العمياء .... لم أعد عبئا عليكِ ... يمكنني أن أكمل دراستي ... يمكنني أن أرى الحياة مجدداً .
خانتني عبرتي حينها وأجهشت بالبكاء: أرجوك يا أمي كوني معي ... كوني بقربي ... أحتاج لأن أبصر العالم معك ... لأن تقوديني إلى طريقي ... أرجوك يا أمي.
وكنتِ يا أمي معي كما عهدتك .... شكراً لوقوفك معي ... شكراُ لتحفيزك لي ... وشكرا لأنك جعلتيني أبصر العالم معك .



عليك أن تستغل كل يوم تلك النعمة التي بيدك وتغفل عنها ... وتشكر الله كثيراً عليها
ففقدان البصر أمر أصعب مما يتخيله أحد.
كن أنتَ النور الذي يقود الأعمى إلى الحياة.

0 comments:

Post a Comment