قصة قارون وما بها من عبر
كان قارون ابن العم لنبي الله موسى عليه السلام، في البداية كان رجلا مؤمنا من بني إسرائيل ولكنه كان محبا للمال وبشدة وطامعا لدرجة أنه بغى على أبناء قومه بأن نسي أصله الطيب في متاهة البحث عن طرق جني المال الوفير؛ كان في بداية الأمر يعمل مساعدا لكبير البنائين في عهد فرعون، وقد أعجب كبير البنائين بنشاطه في العمل ولكنه أيضا أحس فيه حبه لجني المال ولو حتى على حساب مبادئه، إذ أنه ذات مرة تحدث معه في أمر تكلفة البناء العالية وأنه بإمكانهما استخدام مواد أقل وحصد الكثير من الربح، ولكن كبير البنائين رفض وبشدة موضحا ليس بالضرورة الربح ولكنه يبني عمرانا يدوم لآلاف السنين.
وبيوم من الأيام حضر خادمه ليعلمه بأن والده مريض للغاية، ولكن قارون كان قاسي القلب فنهر الخادم وبشدة وأمره بالرحيل إذ أنه لديه الكثير من العمل، سمعه حينها كبير البنائين فأمره بالرحيل للاطمئنان على سلامة والده فالعمل بإمكانه الانتظار أما والده فلا؛ وحينما وصل إلى والده سأله عن الدواء ولكنه أخبره بأنه نسيه ككل مرة سابقة وأنه سيحضره له في المرة القادمة، كان الوالد على يقين بشخصية ابنه الجشع الطماع ولكنه أحب أن يوصيه بشأن ابن عمه نبي الله موسى عليه السلام، فأوصاه بأن يساند ابن عمه في دعوته ويكون له عونا ونصيرا من أعداءه فرعون وهامان وأتباعهما، وأن يجيره ريثما يعود من رحيله فقد قتل بالخطأ أحدا من المدينة ولاذ بالفرار بعدها، وأوصاه أيضا بأن الدنيا فانية ولا تدوم لأحد؛ ولكن حال قارون كان كل ما يشغله وأبوه يحتضر أن يسأله عن التركة والميراث الذي إذخره طوال حياته، والوالد آخر كلمة نطقها بأنه لا يملك سوى قطيع الغنم الذي كان يرعاه قبل مرضه ولا يمتلك شيئا سواه.
عمد قارون إلى فعل غير طبيعي بالمرة، فعل جعل الجميع يتعجبون من أمره حيث أخذ كل قطيع الغنم وقام بذبحه على عتاب قصر فرعون باليوم التالي لموت أبيه، فأمر فرعون باستدعائه في الحال ليعلم الحقيقة منه وراء الأمر العجيب، هنا أخبره قارون بأن الفرعون عنده أهم من أبيه ومن نفسه أيضا، أعجب فرعون بكلامه المتملق ومدحه الزائد فيه، فأخبره بأن يسأله ما شاء، وقتها ظن هامان بأن قارون ستنكشف حقيقة أمره ويزال عنه غطاء الكذب والنفاق، ولكنه طلب من فرعون بأن يمكن له بالبحث عن الخارجين عن طوعه والفارين إلى أراضي الصحراء، فأمر له فرعون بأراضي الصحراء يبحث فيها عن المجرمين ويفعل ما يحلو له.
كان قارون رجلا محنكا لديه من الطرق الآلاف من أجل جني المال، فاستغل كل حفنة من رمال الصحراء في كسب المال باستخراج المعادن من أرضها وتكسير صخورها وبيعها، فتاجر في بناء القصور والبيوت لدرجة أن كبير البنائين اشتكى من فقر حاله بسبب قارون وما وصل إليه، وكان يتاجر بكل شيء بالأسواق فالطعام من خضروات وفاكهة من مزارع قارون والأسماك من مراكز صيد قارون وكل شيء ويزيد من ثمن كل شيء ولا راد له، فأصبح يفعل ما يحلو له.
ذاع صيته بين القوم بأن لديه علما في الكيمياء فباستطاعته تحويل الرمال إلى ذهب، فأثبت الإشاعة بأن جعل رجاله يأتون بالرمال ويضعونها بمخازنه، فتهافت الناس إلى بيع ذهبهم له فاشتراه بثمن بخس، ومن ثم باع لهم الرمال بأعلى الأسعار؛ وعندما أراد هامان أن يفضح أمر الجبال التي مكنها له فرعون فاتخذها لمنفعته، تمكن قارون من إسكات فمه بأن تحايل عليه بوليمة بقصره ووضع خواتم من الذهب الخالص بكل سمكة مطهوة على المائدة، وكانت النتيجة بأن عدل هامان عن رأيه بل ومجد قارون أيضا.
تناول الناس في كافة الأرجاء الأحاديث حول عودة موسى عليه السلام من أرض مدين ورؤيته لربه في جبل الطور، وعلى الفور استدعى فرعون قارون ليتناقشا في أمر ابن عمه الذي ذهب إليه مدعيا وجود إله غيره، فرد عليه قارون بأن يتركه يفعل ما يفعل فلن ينساق إليه القوم؛ ولكن رد عليه فرعون بأن هذه المرة تختلف عن غيرها حيث أن موسى أخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء لامعة كأنه أحضر الشمس والقمر بيده إلى القاعة، علاوة على عصاه التي ألقاها على الأرض فتمثلت ثعبانا مبينا يخافه كل الناظرين، لكن قارون أخذ يضحك بجهله وغروره على أفعال موسى عليه السلام واتهمه بأنه ساحر مبين وأن كل ما فعله إنما هو من عمل السحر، ” وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ”
عمد فرعون إلى أمر وزيره هامان وكل جنوده بإرسال دعوة في طلب كل ساحر في البلاد استعدادا ليوم الزينة، ولكن كانت المشكلة في أن السحرة طلبوا نصف أجرهم قبل اليوم المشهود، وعندما أعلم هامان فرعون بعدم قدرتهم على الدفع أمر فرعون بإحضار قارون إلى قصره على الفور، وأخبره بأنه يعلم بثرائه الفاحش وأنه أغنى القوم لذلك فهو يريد منه عشرة آلاف قطعة ذهبية مقابل ما يريد، فرح قارون بعرض فرعون وانتهزها فرصة فطلب مقابل النقود كل الأرض الخصبة الواقعة غرب منف، تردد فرعون ولكن قارون له أساليبه الخاصة حيث أقنع فرعون بأن قطعة الأرض هذه لن تساوي شيئا مقابل فضيحة موسى أمام كل القوم، فوافق فرعون على طلبه وكان اللقاء بين موسى والسحرة.
اجتمع كل القوم لمشاهدة الحدث العظيم، فجاء فرعون وعلى يمينه وزيه هامان وعلى يساره قارون وكل السحرة يمنون أنفسهم بالجزاء العظيم الذي وعدهم به فرعون إن هزموا موسى وأذلوه أمام كل القوم؛ ولكن ما إن ألقى موسى عصاه حتى لقفت كل عصي السحرة، وقع السحرة ساجدين مؤمنين بأن لا إله إلا رب موسى وهارون، استشاط فرعون عليهم غضبا وأمر بتعذيبهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وصلبوا في جزوع النخل، ولم يستكفِ فرعون بهذا القدر فقط بل أمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم على أمل منه بأن يعودوا إلي دينه، ولكنهم رجوا من الله أن يكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم جزاء بما صبروا على ظلم وجبروت فرعون وتعذيبه لهم.
آمن مع موسى أناس كثيرون من القوم بعدما أيقنوا أن رب موسى هو رب العالمين، عمد فرعون إلى تنفيذ خطة محكمة حتى لا يؤمن بموسى ما تبقى من قومه، ذهب إلى قصر قارون وطلب منه طلبا لن يكلفه شيئا، طلب منه أن يخرج إلى القوم بأبهى زينته حتى ينشغل الناس بماله وثروته الطائلة ويتناسون قصة موسى وعصاه بالتحدث عن قارون وأمواله الطائلة التي لا حصر لها؛ وبالفعل تهيأ قارون وركب في عربته المصنوعة من الذهب الخالص ومن خلفه عصبة من الرجال الأشداء يحملون مفاتيح خزائنه والمصنوعة من الذهب الخالص أيضا.
لقد أراد فرعون أن يجعل من قارون الغني مثلا يحتذي به القوم بدلا من موسى الفقير ولكنه يجهل أنهم يرون فيه خلاصهم ونجاتهم من الظلم؛ وبالفعل فقارون الغني كل من رآه تمنى أن يكون مثله، وانشغل الناس بالحديث عن موكب قارون وماله وحظه الوفير من الدنيا؛ واستغل فرعون عنصر الوقت جيدا فأعد جيوشه وعدته للقضاء على موسى وأتباعه.
أرسل موسى البعض من أتباعه من آمنوا به إلى قارون حتى ينصحوه بألا يغتر بماله الزائل وأن يبتغي فيما أتاه الله الدار الآخرة وأيضا لا ينسى نصيبه من الدنيا، وأن يحسن إلى الفقراء والمحتاجين كما أحسن الله إليه؛ وأمروه بأن يكف فساده في الأرض فالله سبحانه وتعالى أنعم عليه بالثراء الفاحش وناظر ماذا يفعل به في الدنيا ليجازيه به في الآخرة؛ ولكن قارون تكبر وبغى وأنكر فضل الله عليه وأرجع كل النعم التي هو فيها ونسبها إلى ذكائه وعلمه وقدرته.
قال تعالى في كتابه العزيز: ” إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”.
وبالفعل نجحت خطة فرعون في شغل الناس بترف الدنيا وإبعادهم عن قصة موسى وأتباعه، وما إن جهز جيوشه حتى خرج ليبيد كل من آمن بموسى بعدما أمر بتعذيبهم جميعا وأهلهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه فخرج سيدنا موسى ومن آمن معه، فتبعهم فرعون وجنوده، وما إن وصل موسى إلى البحر فاعتقد القوم بأنهم مهلكون فمن أمامهم البحر ومن خلفهم فرعون وجنوده، فدعا موسى ربه فأخبره بأن يضرب البحر بعصاه فانفلق البحر وأصبح كل فرق كالطود العظيم، وعبر موسى ومن معه، وأيضا تبعهم موسى ولكن البحر عاد إلى طبيعته وغرق كل من فرعون وهامان وجنودهما جميعا، وكانت هذه نهاية أعداء الله.
انتشر بين القوم معجزة موسى عليه السلام وهلاك فرعون ومن معه، وعندما بلغ الخبر قارون صنع لموسى مكيدة عظيمة، حيث أرسل إلى بغية حسناء وبعدما فعل بها ما يحلو له وعدها بأن يعطيها كل ما تريد إن نجحت في المهمة التي سيكلفها بها، لقد كانت كاذبة ومخادعة مما جعل قارون يرى فيها الشخصية المناسبة لتحقيق أهدافه الخبيثة.
أرسل بها مع خادمه إلى صحراء سيناء حيث يمكث موسى وأتباعه على كونها ابنة صماء بكماء ويريد والدها (خادم قارون) أن يعالجها عند الرجل الذي ذاع صيته بأنه نبي من الله ويذهب إلى الناس ليدعو لهم ربه بالشفاء، وكل من يذهب إليه لا يخيب رجائه، وبالفعل تمكنا هما الخبيثان من الوصول إلى خيمة نبي الله موسى، وقد دعا ربه ليشفي الفتاة المسكينة؛ ولكن نفذا الخطة الوضيعة إذ قالت البغية أن موسى قد أفقدها أعز ما تملك عندما كان يعالجها بخيمته، استشاط أتباع موسى غضبا عليها وعلى والدها، ولكنها أصرت على مواجهة موسى نبي الله بافترائها وبهتانها العظيم.
أول ما سمع موسى افتراء الفتاة عليه وقولها الإثم بغير الحق ارتعد جسده وقام ليصلي إلى الله، شعرت الفتاة بخوف شديد دب في قلبها، وأول ما فرغ نبي الله من الصلاة استحلفها بالله من أمر البحر فانشق لبني إسرائيل ونجاهم من بطش فرعون العاتية وجنوده الأقوياء أن تصدقه القول، هل فعل بها مثلما قالت؛ وقعت الفتاة على الأرض باكية متوسلة نبي الله موسى أن يسامحها ويغفر لها خطيئتها، فقد ادعت عليه كذبا وأن قارون هو من استأجرها لتفعل ذلك.
خر حينها نبي الله موسى ساجدا باكيا يشكو إلى ربه كل ما ألم به من هم وحزن شديد، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيه ما يبكيك يا موسى؟، ألم نسلطك على الأرض؟!، فأمرها بما شئت ولا تحزن يا موسى؛ فقال نبي الله موسى عليه السلام للأرض “خذيهم خذيهم”؛ أمر الله سبحانه وتعالى الأرض بأن تنخسف بقارون وبملكه، فاستجابت الأرض لأمر خالقها طائعة فانبثقت المياه الغزيرة منها وتوارى قارون وأتباعه وكل أملاكه تحت الماء، ولم يجيره أحد من أمر الله سبحانه وتعالى.
مر القوم على المكان الذي كان به قصر قارون وتعجبوا من قدرة الله سبحانه وتعالى متسائلين أين اختفى كل ما كان من خزائن وبروج مشيدة وكل أمواله التي لا حصر لها، كل من بالقوم كان يتمنى أن يكون مكانه بالأمس ولكنهم الآن يحمدون الله أنه سبحانه وتعالى لم يستجب لهم وإلا لكانوا لاقوا نفس مصيره الأليم، وأصبح درسا على طول الدهر لكل من تسول له نفسه بأن ينتهج مقولته “إنما أوتيته على علم عندي”.
قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ” فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ” صدق الله العظيم.
كثيرا منا ينخدع بمظاهر الحياة الزائلة ظنا بأنها سبل السعادة وطيب العيش، وينسى تماما بأن السعادة الحقيقية تنبع من داخل الإنسان وليس من خارجه، فالسعادة تكمن في الرضا بقضاء الله وقدره فكم من غني أغناه الله من فضله العظيم ولكن المال أتعسه، فكثيرا ما يكون المال هلاكا لأصحابه لا سبيل سعادة.
إن من أكبر المخاطر التي تواجه القلب خطر التكبر والتعالي فلا تكسب القلب إلا القساوة، بها يخسر الإنسان كل شيء ولا يجني إلا الندم الشديد؛ فحب المال والطمع في كسبه بأي طرق سواء كانت ممكنة أو غير ممكنة يجعلان من الإنسان وحشا كاسرا لا يبقى على شيء حتى وإن كان عزيزا وغاليا.
كثيرا منا ينخدع بمظاهر الحياة الزائلة ظنا بأنها سبل السعادة وطيب العيش، وينسى تماما بأن السعادة الحقيقية تنبع من داخل الإنسان وليس من خارجه، فالسعادة تكمن في الرضا بقضاء الله وقدره فكم من غني أغناه الله من فضله العظيم ولكن المال أتعسه، فكثيرا ما يكون المال هلاكا لأصحابه لا سبيل سعادة.
إن من أكبر المخاطر التي تواجه القلب خطر التكبر والتعالي فلا تكسب القلب إلا القساوة، بها يخسر الإنسان كل شيء ولا يجني إلا الندم الشديد؛ فحب المال والطمع في كسبه بأي طرق سواء كانت ممكنة أو غير ممكنة يجعلان من الإنسان وحشا كاسرا لا يبقى على شيء حتى وإن كان عزيزا وغاليا.
0 comments:
Post a Comment